كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إن المراد بقولهم: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}: الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء لقوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}، ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر، فإن معنى {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}: طلب النظرة والإمهال، وأما قوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} فالمراد به: الردّ عليهم، والإنكار لما وقع منهم من قولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 70] {أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ} الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر يناسب المقام كما مرّ في غير موضع، ومعنى أرأيت: أخبرني، والخطاب لكل من يصلح له أي أخبرني إن متعناهم سنين في الدنيا متطاولة، وطوّلنا لهم الأعمار {ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} من العذاب، والهلاك {مَا أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}: {ما} هي الاستفهامية، والمعنى أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل، و{ما} في {مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} يجوز أن تكون المصدرية، ويجوز أن تكون الموصولة، والاستفهام للإنكار التقريري، ويجوز أن تكون {ما} الأولى نافية، والمفعول محذوف أي لم يغن عنهم تمتيعهم شيئًا، وقرىء: {يمتعون} بإسكان الميم، وتخفيف التاء من أمتع الله زيدًا بكذا {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ}: {من} مزيدة للتأكيد أي وما أهلكنا قرية من القرى إلاّ لها منذرون.
وجملة {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} يجوز أن تكون صفة لقرية، ويجوز أن تكون حالًا منها، وسوّغ ذلك سبق النفي، والمعنى: ما أهلكنا قرية من القرى إلاّ بعد الإنذار إليهم، والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقوله: {ذِكْرِى} بمعنى تذكرة، وهي في محل نصب على العلة أو المصدرية.
وقال الكسائي: {ذكرى} في موضع نصب على الحال.
وقال الفراء، والزجاج: إنها في موضع نصب على المصدرية أي: يذكرون ذكرى.
قال النحاس: وهذا قول صحيح، لأن معنى {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ}: إلا لها مذكرون.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذكرى في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي إنذارنا ذكرى، أو ذلك ذكرى.
قال ابن الأنباري: المعنى: هي ذكرى، أو يذكرهم ذكرى، وقد رجح الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف {وَمَا كُنَّا ظالمين} في تعذيبهم، فقد قدّمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} أي: بالقرآن، وهذا ردّ لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} ذلك، ولا يصح منهم {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ما نسبه الكفار إليهم أصلًا {إِنَّهُمْ عَنِ السمع} للقرآن، أو لكلام الملائكة {لَمَعْزُولُونَ} محجوبون مرجومون بالشهب.
وقرأ الحسن وابن السميفع والأعمش: {وما تنزلت به الشياطون} بالواو والنون إجراء له مجرى جمع السلامة.
قال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين.
قال: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا من غلط العلماء، وإنما يكون بشبهة لما رأى الحسن في آخره ياء ونونًا، وهو في موضع رفع؛ اشتبه عليه بالجمع السالم، فغلط.
قال الفراء: غلط الشيخ يعني: الحسن، فقيل: ذلك للنضر بن شميل، فقال: إن جاز أن يحتجّ بقول رؤبة والعجاج وذويهما جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه يعني محمد بن السميفع مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بذلك إلاّ وقد سمعا فيه شيئًا.
وقال المؤرّج: إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه.
قال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيًا يقول: دخلنا بساتين من ورائها بساتون.
ثم لما قرّر سبحانه حقية القرآن، وأنه منزّل من عنده أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده فقال: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين}، وخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا مع كونه منزّهًا عنه معصومًا منه لحثّ العباد على التوحيد، ونهيهم عن شوائب الشرك، وكأنه قال: أنت أكرم الخلق عليّ، وأعزّهم عندي، ولو اتخذت معي إلها لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} خص الأقربين؛ لأن الاهتمام بشأنهم أولى، وهدايتهم إلى الحق أقدم.
قيل: هم قريش، وقيل: بنو عبد مناف، وقيل: بنو هاشم.
وقد ثبت في الصحيح: أن هذه الآية لما نزلت دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم قريشًا، فاجتمعوا فعمّ وخص، فذلك منه صلى الله عليه وسلم بيان للعشيرة الأقربين، وسيأتي بيان ذلك.
{واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة حسنة.
والمعنى: ألن جناحك وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين، وأظهر لهم المحبة والكرامة وتجاوز عنهم.
{فَإِنْ عَصَوْكَ} أي خالفوا أمرك، ولم يتبعوك {فَقُلْ إِنّي بَرِيء مّمَّا تَعْمَلُونَ} أي من عملكم، أو من الذي تعملونه، وهذا يدلّ على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدّقون باللسان، لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه، ولا يخالفونه.
ثم بيّن له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} أي: فوّض أمورك إليه، فإنه القادر على قهر الأعداء، وهو: الرحيم للأولياء، قرأ نافع، وابن عامر: {فتوكل} بالفاء.
وقرأ الباقون {وتوكل} بالواو، فعلى القراءة الأولى يكون ما بعد الفاء كالجزء مما قبلها مترتبًا عليه، وعلى القراءة الثانية يكون ما بعد الواو معطوفًا على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب.
{الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي: حين تقوم إلى الصلاة وحدك في قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعًا وساجدًا وقائمًا، كذا قال أكثر المفسرين.
وقيل: يراك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة.
وقيل: المراد بقوله: {يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} قيامه إلى التهجد، وقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} يريد: تردّدك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة، وتقلب بصرك فيهم، كذا قال مجاهد.
{إِنَّهُ هُوَ السميع} لما تقوله: {العليم} به.
ثم أكّد سبحانه معنى قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين}، وبينه، فقال: {هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} أي على من تتنزّل، فحذف إحدى التاءين، وفيه بيان استحالة تنزّل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}.
والأفاك: الكثير الإفك، والأثيم: كثير الإثم، والمراد بهم: كل من كان كاهنًا، فإن الشياطين كانت تسترق السمع، ثم يأتون إليهم، فيلقونه إليهم، وهو معنى قوله: {يُلْقُونَ السمع} أي: ما يسمعونه مما يسترقونه، فتكون جملة: {يُلْقُونَ السمع} على هذا راجعة إلى الشياطين في محل نصب على الحال أي: حال كون الشياطين ملقين السمع أي ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان.
ويجوز أن يكون المعنى: إن الشياطين يلقون السمع أي: ينصتون إلى الملأ الأعلى؛ ليسترقوا منهم شيئًا، ويكون المراد بالسمع على الوجه الأوّل المسموع، وعلى الوجه الثاني: نفس حاسة السمع.
ويجوز أن تكون جملة: {يُلْقُونَ السمع} راجعة إلى كل أفاك أثيم على أنها صفة، أو مستأنفة، ومعنى الإلقاء: أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها، وتكذب المائة الكلمة كما ورد في الحديث، وجملة: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} راجعة إلى كل أفاك أثيم أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيرًا من أكاذيبهم المختلقة، أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع أي المسموع من الشياطين إلى الناس، ويجوز أن تكون جملة: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} راجعة إلى الشياطين أي: وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه؛ فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرًا من الكذب، وقد قيل: كيف يصح على الوجه الأوّل وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون بعد ما وصفوا جميعًا بالإفك.
وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب لا الذي لا ينطلق إلاّ بالكذب.
فالمراد بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} أنه قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الشياطين، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام ردّ ما كان يزعمه المشركون من كون النبيّ صلى الله عليه وسلم من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب، ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ الصدق، فكيف يكون كما زعموا؟ ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين، وهذا النبيّ المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ويأمر بالتعوّذ منهم.
ثم لما كان قد قال قائل من المشركين: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم شاعر، بيّن سبحانه حال الشعراء، ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} والمعنى: أن الشعراء يتبعهم، أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون أي الضالون عن الحق، والشعراء: جمع شاعر، والغاوون: جمع غاوٍ، وهم ضُلال الجن والإنس.
وقيل: الزائلون عن الحق.
وقيل: الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز، وقيل: المراد شعراء الكفار خاصة.
قرأ الجمهور: {والشعراء} بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر: {الشعراء} بالنصب على الاشتغال، وقرأ نافع وشيبة، والحسن والسلمي: {يتبعهم} بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد.
ثم بيّن سبحانه قبائح شعراء الباطل، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ}، والجملة مقرّرة لما قبلها، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، يقال: هام يهيم هيمًا، وهيمانًا: إذا ذهب على وجهه أي ألم تر أنهم في كل فنّ من فنون الكذب يخوضون، وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون؟ فتارة يمزّقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع، ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق، ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرّمات، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة، ثم قال سبحانه: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} أي يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة في ذلك، فقد يدلون بكلامهم على الكرم والخير، ولا يفعلونه، وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشرّ ما لا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات، وأنهم فعلوا بهنّ كذا وكذا، وذلك كذب محض، وافتراء بحت.
ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحرّي الحق والصدق، فقال: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي دخلوا في حزب المؤمنين، وعملوا بأعمالهم الصالحة، {وَذَكَرُواْ الله كَثِيرًا} في أشعارهم {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} كمن يهجو منهم من هجاء، أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يهجون من يهجوه، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم، ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة، كما يقع ذلك كثيرًا من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله، المنتصرين لدينه، القائمين بما أمر الله بالقيام به.
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام، فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب.
وقد وردت أحاديث في ذمه وذمّ الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته، وتجويزه، والكلام في تحقيق ذلك يطول، وسنذكر في آخر البحث ما ورد في ذلك من الأحاديث.
ثم ختم سبحانه هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله، فقال: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أي مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، فإن في قوله: {سيعلم} تهويلًا عظيمًا، وتهديدًا شديدًا، وكذا في إطلاق {الذين ظلموا} وإبهام {أيّ منقلب ينقلبون}، وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء، ولا وجه لذلك، فإن الاعتبار بعموم اللفظ، وقوله: {أَيَّ مُنقَلَبٍ} صفة لمصدر محذوف أي ينقلبون منقلبًا أيّ منقلب، وقدّم لتضمنه معنى الاستفهام، ولا يعمل فيه {سيعلم}؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه.